مقالات

خالد الشربيني يكتب: حين يصبح العطر غير كاف„

قصة لرجل ما زال قلبه شابًا… وصُدم بانعكاس العمر في أعين الآخرين.
في ظهيرة أحد أيام يوليو، ومع حرارة الشمس التي تلمع فوق زجاج السيارات، خرج هشام من بيته متأنقًا كعادته. رجل يبلغ من العمر 49 عامًا، لكنه لا يعرف التراخي في المظهر. قميص أبيض ناصع، ساعة جلدية كلاسيكية، نظارة أنيقة رغم أنها قديمة بعض الشيء، وبرفان فرنسي يعبّر عن ذوقه الراقي.
كان في طريقه إلى محل نظارات شهير وسط المدينة، يريد أن يغيّر نظارة نظره التي ملّ منها، ويشتري نظارة شمسية جديدة، استعدادًا للسفر.
في عقله، لم يكن يشعر بأنه “رجل على مشارف الخمسين”. قلبه لا يزال ينبض كلما رأى امرأة جميلة، وذاكرته العاطفية لا تزال تستحضر أيام الشباب والفتنة والعشق، وكأن الزمن لم يمر.
دخل المحل الواسع المكيّف، فرحّب به شاب عشريني ببساطة، ثم قال:
“الآنسة جوا، هتساعدك في الاختيار.”
خرجت هي من خلف أحد الأرفف…
فتاة في منتصف العشرينات، ترتدي بنطلون جينز وقميص أبيض، شعرها مربوط على شكل ذيل حصان، وابتسامة واسعة على وجهها.
قالت له برقة، وهي تتقدّم نحوه بخفة:
“أهلاً وسهلاً، حضرتك عايز نظارة نظر؟ ولا شمسية كمان؟”
ابتسم وقال بلطف:
“الاتنين الحقيقة، بس نفسي أختار حاجة شيك شوية، مش تقليدية.”
نظرت إليه بسرعة، ثم قالت بحماس طفولي:
“تمام يا عمو، عندنا موديلات جديدة وصلت الأسبوع ده، هتعجبك.”
تجمّد للحظة.
هل قالت فعلاً… “عمو”؟
هشّ رأسه كأنه يريد أن يتخلّص من الكلمة، لكنه لم يردّ.
ابتسم مجددًا، لكنه هذه المرة شعر بابتسامة مختلفة، فيها شيء من الانكسار… أو ربما الدهشة.
تابعت كلامها بعفوية:
“دي ماركة كويسة جدًا، وبتليق على الكبار في السن، عفوا يعني…”
ابتلع الكلمات مثل مرارة مفاجئة، لكنه ظل محافظًا على ابتسامته.
“لا عادي، فهمت قصدك.”
بدأ يُجرّب النظارات، واحدة تلو الأخرى، لكنها لم تكن تعنيه كثيرًا هذه المرة. لم يعد يرى الزجاج، بل يرى نفسه… في عيونها.
“هل أنا كبير فعلاً؟”، سأل نفسه.
“هل هذا ما أبدو عليه؟ رغم العطر، والملابس، والطاقة؟”
بدأت الذكريات تهاجمه.
تذكّر تلك المرة التي نادته فيها فتاة في الشارع بـ”يا أستاذ”، ثم صحّحت لنفسها وقالت “عمو آسفة”.
تذكّر كيف أصبح يسمع “يا حاج” أحيانًا من شباب أقل منه حيوية، لكنه كان يضحك ويرد بـ”أنت اللي حاج يا بني”.
لكن هذه المرة… كانت مختلفة.
هو كان منجذبًا للبنت، وجدها جميلة، لطيفة، وكان يشعر داخليًا بشيء يشبه الإعجاب… أو على الأقل، الفضول.
اشترى النظارتين. شكرها بابتسامة هادئة، وخرج من المحل في صمت.
في الشارع، شعر بأن الناس كلهم يرونه كما رأتها.
رجل أنيق… لكن “كبير”. محترم… لكنه “خارج اللعبة”.
ذاك النوع من الرجال الذي يعلّقون على الجمال دون أن ينتظروا الرد.
ركب سيارته، وضع النظارة الشمسية الجديدة على عينيه، وحدّق في مرآة الرؤية الخلفية.
سأل نفسه:
“هل انتهى زمن أن أُعجب ويُعجب بي؟
هل أصبحت تفاصيل أناقتي تثير الاحترام فقط، لا الرغبة؟”
لكنه فجأة استدار ليواجه مرآة وجهه في السيارة مباشرة، وقال لنفسه:
“لا، أنا مش عمو… مش بمعناها اللي في دماغهم.
أنا راجل لسه بيحب، ولسه بيعرف يُبهر.
لو ما شافوش ده… مشكلتهم، مش مشكلتي.”
ابتسم لنفسه.
وفتح زجاج السيارة، ليترك بعض الهواء يدخل.
ترك العطر يختلط بالهواء…
فربما يشمّه أحدهم ويشعر، ولو للحظة، أن هذا الرجل… لم ينتهِ بعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى